إذا كانت الكتابات حول الكوير في ليبيا قليلة، فإن المعلومات عن حياة المثليات ومزدوجات الميل الجنسي بالأخص شديدة الندرة، ذلك بأن “مجتمعنا مجتمع رجال” كما لاحظ النيهوم يتمتع فيه الرجل باهتمام ودراسة العقل الجمعي وكذلك يستأثر بأشد لعناته وسخطه كما هو الحال مع الكوير الذكور، فقط لأنهم ذكور، مثل حملات التنمر على فيديوهات وصور شباب يتصرفون فيها على طبيعتهم أو يرتدون فيها ملابس لا تتفق مع الشكل النمطي للشاب في ليبيا، دعك من أخبار القبض على مثليين من قبل جهات أمنية التي تثير ضجة وكره شعبي ضد الضحايا المثليين في حين تعيش المثليات في عالم خفي محجوب بالمحظورات التي تقيد النساء عمومًا.
بيد أن هذا الخفاء لم يحمِ المثليات ومزدوجات الميل الجنسي بقدر ما جعلهن متلقيًا للأفكار والسلوكيات الرافضة لوجودهن أصلًا والمدمرة بطبيعة الحال لأي حياة صحية ناجحة. إذ اعتقد وسط المثليات والمزدوجات -منذ وقت طويل- بأن رغباتهن وأفعالهن هي في نهاية الأمر: انحراف عن المجتمع مهما بلغت قوة الرغبات وصدق المشاعر، وبالمقابل كانت الأدوار الاجتماعية السائدة –التي يفرضها الرجال عمومًا- هي المثل الذي يتبعنه، وإثر هذا الإنفصال الناتج عن تاريخ من التطبيع مع النمطية المغايرة، تبنت النساء الكويريات صورة الزواج المغاير التقليدي في العلاقات العاطفية والجنسية بينهن، أي تصرفات الذكر المسيطر والأنثى التابعة وهي ذاتها التصرفات التي تقلل من شأن المرأة… أعيد إنتاج هذه الصورة حتى سنوات قليلة ماضية حين أتاح الإنفتاح العالمي مجالًا لاكتشاف نماذج علاقات وشخصيات نسائية كويرية أكثر صحية ومرونة.
وتوفر عامل المرونة في هذا المحيط -مقارنة بالمثليين والمزدوجين الذكور- جعل هذا المحيط أكثر تماسكًا، وأقصد بالمرونة هنا: سهولة اللقاء والتعارف، الطول النسبي للعلاقات، مجال السرية الواسع نسبيًا؛ إذ ليس غريبا أن تقضي إحداهن ليالي مع “صديقتها” في بيت أهلها وأن تصبحا شديدتا القرب أمام الجميع فهما في عين المجتمع: مجرد صديقتان مقربتان.
بيد أن مرونة اللقاءات لم تسفر عن تطور جذري في صورة ومفهوم العلاقات، فالقهر الذي تتعرض له الليبية على مستويات عدة، بالإضافة لإقصاء مشاكلها وتهميش أدوارها، له أثر أسوأ على الكوير الليبية لأنها تتعامل في نفس الوقت مع طبيعة تعد انحرافًا عند العقل الجمعي التي هي جزء منه وبالتالي لم تتح الفرص لأجيال المثليات والمزدوجات الأكبر سنًا لتجربة حياة يختبرن فيها أفكارًا وأساليبًا وحقوقًا سلبت منهن.
ويتضاعف هذا الاضطهاد -كما هو متوقع- كلما زاد استعلان الكوير الليبية، أي كلما كان مظهرها و أسلوبها مخالفًا للصورة النمطية للمرأة في مجتمعنا؛ فهي بذلك تتحدى الرجل التقليدي والمجتمع الذي يتبع سلطته على الدوام، بيد أن تحدي الكوير الليبية للقهر ليس أمرًا جديدًا وإنما يعود لتاريخ طويل جدًا منذ ارتداء النساء زي الرجال الحربي في معارك القبائل الليبية مع المصريين القدماء قرابة ألفي سنة قبل الميلاد، من هنا تطور نموذج المرأة الكوير الفاعلة التي كونت بيئات قزمية آمنة لأسرة الميم/عين+، وهو أمر يستحق الدراسة بالفعل، إذ يعود الفضل للكوير الليبية في رعاية المضطهدين/ات بسبب طبيعتهم الجنسية والجندرية المختلفة في الأحياء الشعبية وحتى داخل الأوساط الإبداعية وذلك بعد أن اكتسبت الكوير عبر نضال مرير، مكانة اجتماعية تحميها من الاضطهاد، تمثل هذا في ضم فنانات شعبيات في طرابلس ودرنة راقصين رجال لحفلاتهن، لتأدية رقصات نسائية تقليدية الأمر الذي كان معروفًا حتى ستينيات القرن الماضي تقريبًا كما ضمت بعض الاعلاميات والتشكيليات فريقًا من المبدعين/ات الكوير إلى مجالهن، كذلك الدعم الذي وفرته عدد من المعلمات وكبيرات الموظفات الحكوميات خصوصًا في زمن الجماهيرية في مواجهة الإساءة الاجتماعية والملاحقة القانونية لمجتمع الميم/عين+ مما أتاح لمبدعين/ات كوير فرصًا محدودة للنمو وممارسة حياتهم/ن في ظلهن، إضافة لتقديم النصح وحتى الدعم المادي والأهم من ذلك كله، القبول الذي يفتقده أغلب مجتمع الميم/عين+ داخل عائلاتهم/ن البيولوجية، ليأخذن بذلك دور الأم أو الأخت الكبرى أو ببساطة ولي الأمر البديل، ونتيجة لهذا، كانت الكوير الراعية محط هوس المتعصبين وأبرز ضحايا ظاهرة العنف الممنهج ما بعد سنة 2011.
ولم ينحصر الأذى الذي لحق نموذج الراعية في الهجوم الذي تعرضت له من “مجتمع الرجال” وحسب، بل أن الجهل بالحقوق وبأهمية دورها التاريخي وإهمال بقية مجتمع الميم/عين+ لهن كان الأثر الأكبر في هدم أغلب البيئات التي بنتها الكوير الليبية، ودليل ذلك شح المعلومات عن وسط المثليات/المزدوجات داخل مجتمع الميم/عين+ الذي يعادل شح الدعم لهن المتمثل في خلق شبكات تواصل وتثقيف وتقوية للكوير التي تشكل عاملًا هامًا في حركة التمدن في ليبيا.
كتابة: تازر