يكافح مجتمع الميم في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا عمومًا هيمنة السلطة الذكورية الأبوية التي تفرض الجنسانية المغايرة* في جميع الفضاءات الاجتماعية.. ويعاقب المخالفون والمخالفات لهذه السلطة بالتجريم، والاعتقال، وسوء المعاملة وغيره من الانتهاكات المخالفة لالتزامات هذه الدول، ويرافق هذه الانتهاكات تأييد شعبي من عامة الناس، ورجال الدين، ووسائل الإعلام المختلفة التي تقتات على الكراهية والتحريض على رهاب المثلية.
في ليبيا، مر المجتمع بجميع أطيافه ومكوناته بالعديد التغيرات والتخبطات حتى انتهى به المطاف في دوامة لا يبدوا أن هناك مخرجًا منها، فلطالما كانت مسألة الحقوق والحريات محط جدل بين جميع الأطراف المتحاربة وتعرضت للتسييس والمساومات مرات كثيرة، وبطبيعة الحال في دولة تعاني من الفراغ السياسي وسيطرة المليشيات المؤدلجة، برزت عدة كيانات في المجتمع الليبي تتخذ من أشكال العنف الأبوي أسلوبًا في ممارسة الانتهاكات في حق أفراد مجتمع الميم عبر التضييق والتهديد ووصولًا الى الإخفاء القسري والاعتقال التعسفي والموت تحت التعذيب في سجون ومعتقلات خارج سيطرة الدولة.
بيئة كهذه، قائمة على الهيمنة الذكورية والتطبيع للمغايرة الجنسية، يأتي الكوير في أسفل الهرم الاجتماعي، الذي لم يجد سوى الإنترنت كفضاء لاستكشاف الذات، فبمجرد التسجيل على أحد مواقع التواصل الاجتماعي، يـ/تجد الكوير نفسهـ/ا جزءًا من قرية عالمية، مكان تختلط فيه مشاكل العالم الأول مع مشاكل العالم الثالث، سكان يتذمرون من انعدام وجود الكهرباء والماء وسكان يتحدثون عن قضايا متقدمة في الحقوق الفردية ليست من أولويات أفراد العالم الثالث.
الفضاء الالكتروني ومجتمع الميم الليبي
لعب الإنترنت دوراً كبيراً في تشكيل سلوكيات المجتمع الليبي، ووفر فضاءًا شبه آمن للفئات التي تتعرض للقمع والتمييز في الفضاءات العامة، لكن لسوء حظهم، يتعرض الفضاء الإلكتروني في ليبيا لمراقبة الجهات الأمنية وباقي جنود النظام الأبوي بشكل دائم، لغرض فرض وصايتهم على المحتوى المنشور، حتى تكون بيئة مواقع التواصل الاجتماعي مرآة لهيمنتهم وقمعهم على أرض الواقع.
وجد المجتمع الكويري في ليبيا طرق عدة للتكيف في هذه الفضاء الذي سمح له بالتعبير عن جنسانيته، وممارسة حريته التي فقدها في الفضاء المادي، عبر صفحات ومجموعات أُنشئت لتأكيد على وجودهم/ن وفتح باب الحوار وتبادل المعلومات وخلق جسر تواصل فيما بينهم/ن، ولعروض طلبات ممارسة الجنس وهو أكثر الممارسات طغياناً على الانترنت. وكوني شخص مثلي منخرط بشكل مباشر مع المجتمع الكويري الليبي – سواء على الواقع أم على الانترنت –، لدي رؤى مختلفة حول الحوارات والأفكار المتداولة.. وبعد سلسلة من المشاركات والنقاشات المعمقة التي خضتها، توصلت إلى تصور لأبرز الأساسات التي يُبنى منها هذه الوعي المنتشر.
” اني مثلي ياخوي، راهو المثلية شي غلط مع احترامي! نتمنى يلقولها دواء”
” للي يقول ربي هكي خلقني وشن ذنبي؟ معناها اللي ربي خلقه يحب السرقة شن ذنبه واللي ربي خلقه يتمتع بقتل الناس هذا شن ذنبه.. كل انسان وربي ابتلاه بشي حتى يختبر صبره وقوة إيمانه.. أنا مش شيخ بس نعرف أن هذا إبتلاء من ربي ونسال الله ان يهديني قبل مماتي.. و يهديكم أجمعين”
عينة بسيطة من التعليقات الموجودة على منشور نشر على أحد الصفحات الشهيرة الخاصة بالمجتمع الكويري الليبي، محتوى المنشور كان يتحدث عن وعي وثقافة المثليين ورأيهم بخصوص الأنشطة المنادية بحقوقهم، والمطالبات بتغيير نظام الحكم إلى النظام المدني، ويسأل الجمهور عن آرائهم حول المثلية إن كانت مرض أم لا.
النصيب الأكبر من التعليقات كان الرفض القاطع لتقبل المثلية الجنسية كأمر طبيعي مع اختلاف وتقاطع في أسباب الرفض، والتي يرجع أغلبها إلى العنف الأبوي الموجود على الساحة.
الشخص الذي يـ/تكتشف مثليتهـ/ا في ليبيا سرعان ما يـ/تدخل في دائرة صراعات داخلية مع نفسهـ/ا والآخرين من محيطه، وليس لهـ/ا مهرب من تذكر كلام الشيخ على التلفزيون أو في خطبة صلاة الجمعة أو تذكر قصة أحدهم عندما اعتقلته مليشيا مسلحة بسبب ميوله أو مظهره غير المعياري، كل هذه الذكريات كافية لدفع المثليين والمثليات لاستخدام جميع أساليب القهر والضغط مع نفسهـ/ا لنكران طبيعة ميولهـ/ا، وهذه ما يسمى رهاب المثلية المبطن.
” رأيي الشخصي أنه كل هذا حرام وربي مش راضي علينا.. صح نمارسو بس مقتنعين أنه حرام! متخليكش توصل لدرجة أن الشي اللي انديرو فيه حرية شخصية وغيره.. لالا يا خوي كله هذا حرام وحنتحاسبو عليه بس الله غالب إن النفس امّارة بالسوء”
” استر نفسك ربي يسترك وماحد يقربك. الموضوع فاحشة وحرام. بالعقل الشباب اللي تتصنع وادير في مكياج وتعوج في مشيتها وتتشبه بالبنات هذه كيف تبي مجتمع يحترمها. خليك راجل ولو عندك هرمونات انثوية غالبة عليك خلاها لوقت ممارسة الجنس. واستر نفسك.”
مسألة الحقوق والحريات الشخصية في ليبيا مازالت مغيبة في الأذهان، والصراع الحقيقي الموجود عند الغالبية العظمى هو مدى توافق مفهوم الشريعة الإسلامية مع هذه المسألة، وفي السنين الاخيرة، كثر النقاش حول أمور يعتبرها المجتمع جدلية لأول مرة، وارتكز النقاش على مدى القبول والرفض لهذه المواضيع، كنوع من جلسات التقييم والمحاكمة المجتمعية، وتسيطر الميزوجينية ورهاب المثلية بقوة على النقاش، فغالبية المستهدفين/ات هم/هن من الرجال والنساء غير المعياريين/ات والخارجين/ات عن النمطية الجندرية والجنسية، ويشارك أفراد المجتمع الكويري في هذه الجلسات بدور المجرم والقاضي معًا.
إن المجتمع الكويري الليبي، كغيره من أطياف المجتمع الليبي، يمر بأزمات مضاعفة، فوجوده هش جدًا كما أنه لم يصل للنضج الكافي للمراهنة على وعيه لمجابهة الأبوية والنهوض بثورة تقاطعية تنويرية للوصول إلى العدالة الجندرية، فلا يمكن الحصول على حقوق للكوير بدون القضاء على التمييز القائم على النوع الاجتماعي والوصول لديناميات سلطة متكافئة في المجتمع.
*مغاير: شخص ينجذب جنسيًا للجندر المغاير فقط (Heterosexual)